شهد لبنان في تاريخه موجتين كبيرتين من الهجرة، الأولى بين أواخر القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الأولى (1865 – 1916). ويُقدر أن 330 ألف شخص هاجروا من جبل لبنان آنذاك. والموجة الكبيرة الثانية خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990)، .ويُقدّر عدد الذين هاجروا خلالها بحوالي 990 ألف شخص
الهجرة هي حركة انتقال عدد كبير من الأشخاص من موطنهم الأصلي إلى بلد آخر والاستقرار فيه بشكل دائم أو مؤقت، بحثاً عن مستوى أفضل للعيش والسكن والأمن.
هجرة الشباب
منذ 2019، مع بدء الأزمة الاقتصادية، يشهد لبنان موجة ثالثة من الهجرة لم تنته بعد، ويتوقّع الخبراء أن تكون أكبر من الموجتين السابقتين. لكن ما يزيد خطورة هذه الموجة هو أنها تهدّد لبنان بفقدان العنصر الشاب في المجتمع. ففي دراسة أجراها «مرصد الأزمة»، التابع للجامعة الأميركية في بيروت، العام الماضي، تبيّن أن نسبة 77% من الشباب يسعون إلى الهجرة أو يفكّرون بها، وهي نسبة أعلى حتى من الدول التي شهدت أو تشهد حروباً مثل العراق وليبيا. وإلى جانب طموحات الشباب بالسفر، يشهد لبنان ما يسمّى «هجرة الأدمغة».
ما هي هجرة الأدمغة؟
عندما يغادر العلماء وأصحاب الاختصاصات المختلفة، كالأطباء والمهندسين وغيرهم من أصحاب الكفاءات والمهارات، بلادهم إلى دول أخرى، يُسمى ذلك بـ«هجرة الأدمغة».
يهاجرُ هؤلاء لأسباب متنوعة، إما بسبب ظروف صعبة تشهدها بلدانهم، مثل: الحروب، أو عدم الاستقرار السياسيّ، أو الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة، وارتفاع نسبة البطالة، وانتشار الفساد، وانعدام الحريات، وإما بسبب ما تتمتع به البلدان التي يهاجرون اليها من ميزات، مثل توافر فرص العمل، والتقدُّم الاقتصاديّ، والمستوى المعيشيّ المرتفع.
تحدث هذه الهجرة دائماً إلى بلدان أكثر تقدماً. وهي ظاهرة غير جديدة. فقد شهد التاريخ هجرات واسعة من أوروبا إلى أميركا الشمالية في القرنيْن التاسع عشر والعشرين. وفي القرن الأخير تركّزت هجرة الأدمغة من البلدان النامية في آسيا وأفريقيا وبعض دول أميركا اللاتينية، إلى البلدان المتقدّمة مثل الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية.
الأدمغة العربية
تنتشر ظاهرة هجرة الأدمغة في الدول العربية بشكل كبير، خصوصاً في البلدان العربية الفقيرة. وذكرت دراسات أجرتها جامعة الدول العربية ومنظمة اليونسكو والبنك الدولي، أن «منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي تساهم في حوالي ثلث هجرة الأدمغة من البلدان النامية، حيث يهاجر نحو 50٪ من الأطباء و 23٪ من المهندسين و 15٪ من اختصاصات أخرى، من الدول العربية إلى أوروبا وأستراليا وكندا ودول أخرى، بحثاً عن مستوى معيشة أفضل».
ما هي تأثيرات هذه الهجرة؟
يُعتبر العلماء وأصحاب الاختصاصات رأس المال البشري لأي بلد. لذلك، فإن هجرتهم تؤثر سلباً على أوطانهم وتحرمها من الاستفادة من علومهم وخبراتهم. من بين هذه الآثار السلبية:
* يساهم أصحاب الاختصاصات في تقدّم بلادهم وتنميتها. عندما يغادر هؤلاء، تتسع الفجوة في التنمية والتطور بين بلدانهم وبين البلدان المتقدمة التي يهاجرون اليها. مثلاً: عندما يغادر العلماء تقلّ الأبحاث العلمية، وعندما يغادر أساتذة الجامعات يتراجع المستوى التعليمي، وعندما يغادر الأطباء ينخفض عدد الأبحاث الطبية.
* يفقد البلد الذي يشهد هجرة أدمغة نسبة كبيرة من القوى المنتجة فيه ما يؤثر سلباً على على اقتصاده. ينتج عن ذلك تراجع المستوى الاقتصادي، والصحّي، والاجتماعي في البلد الذي تُهاجر منه الكفاءات، بسبب فقدان العلماء والمُتخصِّصين في هذه المجالات.
* تتكلّف البلدان التي تشهد هجرة أدمغة خسائر مالية كبيرة بسبب الكلفة المرتفعة لاستقدام كفاءات أجنبية تحلّ محلّ تلك المهاجرة.
* فقدان الهوية. فمع مرور الوقت ستتغير عادات وتقاليد كثيرة لدى الشخص المهاجر.
آثار إيجابية أيضاً
إضافةً إلى الآثار السلبية لهجرة الأدمغة، هناك في المقابل عدّة آثار إيجابيّة، من بينها:
* الأموال التي يُحوّلها المهاجرون إلى أهاليهم في بلدانهم الأصليّة ممّا يدعم عمليّة التنمية.
* تبادل المعرفة ونقلها من الدول المتقدّمة إلى البلدان التي يأتي منها المهاجرون.
* احتمال عودة المهاجرين إلى أوطانهم بعد اكتسابهم مهارات إضافية مما يساهم في التطور العلمي وعملية التنمية في أوطانهم، أو بعد جمعهم أموالاً بما يساهم في تحسين الوضع الاقتصادي في البلدان الأم.
* عندما يصل أصحاب الأدمغة المهاجرة إلى مراكزَ ومناصبَ عليا في الدول المتقدّمة فإنهم يرفعون عالياً إسم أوطانهم في هذه الدول.
مهاجرون لبنانيون مبدعون
بدأت هجرة اللبنانيّين باكراً جداً منذ نهاية القرن الثامن عشر، خصوصاً إلى أوروبا والولايات المتحدة وإفريقيا. ويُقدر عدد اللبنانيين من أبناء هؤلاء المهاجرين وأحفادهم اليوم بأكثر من عشرة ملايين شخص. ومن بين المهاجرين الأوائل والمتأخرين أصحاب أدمغة، وقد برز منهم مفكرون وعلماء ومخترعون، أهمهم المفكر والأديب جبران خليل جبران الذي لا يزال حتى اليوم يكرّم في العالم، والمخترع اللبناني حسن كامل الصبّاح الذي أُطلق عليه لقب «أديسون الشرق»، والطبيب البريطاني من أصل لبناني بيتر براين مدوَّر الذي سُجّلت اكتشافات طبية بإسمه، وعالم الفيزياء رمّال حسن رمّال الذي نال عام 1984 لقب «أصغر عالِم»، ومايكل إلياس دبغي، وهو طبيب ومخترع ومرجع طبي أميركي لبناني الأصل وأحد رواد جراحة القلب، وكان مستشاراً طبياً لجميع رؤساء الولايات المتحدة في خلال العقود الخمسة الماضية.
التعليقات (0)