كم من اللبنانيين تركوا البلد بهذه الازمة، وكم منهم لا نعلم عنهم الكثير عن تجاربهم؟ ما الذي اختلف بحياتهم اليوميّة؟ كيف يترك المرء بلده بهذه السرعة؟ ماذا تفعلون عندما تخوضون معركة لم تختارونها بأنفسكم؟ ماذا ستفعلون عندما يظهر شيء ما على عتبة أبوابكم، لم تتوقعونه مسبقا؟ ماذا لو شعرتم بالكسل والفشل والخوف والتوتر؟
فرشاية شعري كانت أوّل ميكروفوناتي
أذكر طفولتي التي قضيت فيها لحظات ممتعة، ولكن لم تكن هادئة في الحقيقة. منذ طفولتي اخترت ان أكون فتاة حازمة وعاقدة العزم.. حينها كان داخلي يثور على كل ما يخالف ويتخطى حدود افكاري ومعتقداتي. انه النظام الأبويّ، انها عادات وتقاليد تقمع وتحد حدود افكارنا، حريتنا، اختياراتنا، قراراتنا وطموحاتنا.
مرّت السنين والأيّام بمعجزة من ربّي، وفي صيف عام ٢٠١٥ تركت قريتي ساعية لتحقيق حلمي، فانتقلت للعاصمة بيروت لالتحق بكليّة الإعلام.
أمّي: أتذكرين حين كنت تحملين فرشاة الشعر مستعدّة لقراءة نشرة الأخبار المحليّة والدوليّة؟
– أجل يا امّي، في غرفة الجلوس، نشرة أخبار الثالثة عصرًا، كنتِ من أوّل المعجبين بإلقائي.
مع انقضاء الأعوام، وصيف آب ٢٠٢٠ اشتعلت المظاهرات في وطني الحبيب لبنان. كانت حالتي تشبه حالة جميع الشباب والشابات الذين لم يقصدوا هجرة لبنان، ولكنّهم قصدوا العيش مجدّدًا.. مشاهد كثيرة لا تزال تمرّ أمام اعيني، سلسلة الاغتيالات، وأحداث ١٧ تشرين، وانفجار مرفأ بيروت، صور الجرحى ومشاهد التهجير والفقر والمدارس والجامعات المغلقة والى ما هنالك من آراء متناقضة ومعلومات متضاربة، وبرامج وحوارات مباشرة على شاشات التلفزيون تدوم ساعات وساعات، بنتيجة واحدة…لا شيء.
خلال هذه الفترة انضممت الى فريق “يومكم”، كانت أولى خطواتي لكتابة المقال، واكتساب خبرة في المهنة الإعلامية.
كنت اتخبّط، اصارع نفسي، أشكرها وأعاقبها واحزن عليها تارة أخرى. وبعد عدة أشهر، تلقيت اتصالا من شركة موانئ دبي العالمية بأنه تم قبولي للعمل مع فريقهم الإعلامي طيلة معرض اكسبو ٢٠٢٠. أعجبتني الفرصة. ولكن، كم هو صعب أن أتخذ القرار الصحيح! كيف لي أن أترك لبنان مرّة أخرى؟ كيف سأتقبل الاختلاف؟ ماذا سيقول الآخرين حولي؟ خلال مراحل تربيتنا، اكتسبنا فلسفة الرفض، نرفض التغيير والخروج من أفكارنا ومعتقداتنا، نرفض الاختلاف والأشخاص. نحن فقط نرفض. ولكن من قال أنّ هناك حقيقة حتميّة لما هو خطأ وصحيح؟ حسمت أمري، غادرت…
فرصة الانفتاح على ٦٠ جنسيّة
نحن لا ندري حقا كم من الممكن أن نتعلّمه حينما نمنح أنفسنا فرصة الانفتاح على ٦٠ جنسيّة من حول العالم. داخل المعرض لا توجد نزاعات ولا خلافات، تصطفّ الدّول جنبًا الى جنب، الشرق الأوسط مع دول الاتحاد الأوروبي، وافريقيا وآسيا وأميركا٫ كلّها تتكاتف لهدف واحد، تحقيق مستقبل أكثر أمانا واستدامة لحماية كوكبنا. في هذا المكان، استمتع بمشاهدة هذا التعاون الفريد، وبالشعور بالسلام والأمان الداخلي.
أحدّثكم عن جمال الصّور التي التقطها للمعرض، صور تجمع الشرق والغرب، الغنيّ والفقير، الوزير والسفير والموظف، والأديان على اختلافها. أجمع ذكريات جميلة وأكتبها، كالساعة السابعة صباحا كل يوم، حين استيقظ لاستقلّ القطار او الحافلة برفقة اصدقائي الصاخبين، وادخل في محادثات مع هذا وذاك، نضحك ونبكي ونتعارك، لحين وصولنا الى داخل الشركة. هنا، ننسى كل شيء ونعمل يدًا بيد كفريق واحد ولهدف واحد، “إنجاح عمل الشركة”.
في هذه الفترة أعددت تقاريرًا اسبوعيّة حول مختلف القضايا المتعلقة بالشركة من أجل رفعها الى الرأي العام، كما ساهمت في تغطية مختلف الأجنحة التي أجريت فيها مقابلات عدّة مع الزوار والمديرون ونقلها للطلاب الذين لم تتاح لهم الفرصة لزيارة المعرض. بذلت قصارى جهدي كي اتعلّم الكثير عن المهنة الاعلامية، واعترف ان الحظ قد وافقني حينما عملت تحت اشراف صحفيّين محترفين من مختلف دول العالم.
ان طبيعة العمل اعادت دورة علاقاتي بالناس الى نشاطها وطورت علاقاتي الاجتماعية، كما ساعدتني على فهم مختلف الثقافات واحترامها، وتوسيع نظرتي للحياة العملية. خلال ممارستي لعملي احرص على التزامي بأخلاقيات المهنة، لربّما تعلّمت الكثير عن أسرار نجاح عمل كل صحفي، كسرد القصص التي تعتبر أيضا مسؤولية كبيرة، أي نقل الاحداث وقصص الناس بما يتوافق مع حماية كرامتهم وحقوقهم، بالعودة الى الرسالة الإعلامية ونقل الاخبار بعين مجرّدة، بعيد عن التحيّز، وايقاظ الأخلاق والضمير والرّقابة الذاتيّة والموضوعيّة، واحترام الكرامة الانسانيّة.
محادثة لمنتصف اللّيل أذكرها، تتخلّلها طلعات ونزلات
يتحدث الجميع عن تجاربهم السابقة، عن خبراتهم والأماكن التي زاروها، حتى عن الصعوبات التي مرّوا بها قبل مجيئهم الى الإكسبو.
لم يكن تقبل الآخرين في البداية أمرًا سهلًا بالنسبة اليّ، فخلال أسبوعي الأوّل، شعرت أنني لست مستعدة لأي محادثات مع زملائي، عزلت نفسي عن الجميع، الى أن استطاعت احداهم الاقتراب مني لتزيل شعور الخوف، أصبحت قريبة منّي وتمكّنت من الدخول الى أعماقي…أذكر المحادثة بحذافيرها، حين سألتني آنذاك: ماذا عنك، هل تذكرين أوّل إنجاز قمتي به؟
نظرت اليها مبدية اعجابي بالسؤال: طبعا اذكر، لا ادرِ ان كان ذلك إنجازًا، ولكنّه كذلك بالنسبة لي على الأقل. مرحلة البكالوريوس، حققت اوّل انجازاتي. أعددت حلقة تلفزيونيّة اخترت فيها موضوعًا لا بدّ له من علاج داخل برلمانٍ تتفشّى فيه كلّ أمراض الفساد والتّمييز الجندريّ. كانت مقابلة مميّزة قد أجريتها للمرّة الأولى عبر شاشة محطّةٍ تلفزيونيّة لبنانيّة مع إحدى المرشحات في البرلمان اللّبناني، وفيها دار النقاش عن دور المرأة في صناعة القرار والعمل السياسي وقصص نساء كُتمت اصواتهن وتكبّلت ادوارهن.
أضافت: وهل هذا يتعلق بالصعوبات التي مرّرت بها؟ لما تهتمين بالمرأة الى هذا الحدّ؟
من الواضح انني لست الوحيدة التي مرّت بصعوبات، ولكن صعوباتنا تختلف. انني فعلا انتظر يوم تصبح المرأة متساوية مع الرجل، واعمل على ذلك. بعد رحلتي لعام واحد الى قبرص، لمتابعة دراستي للماجستير في العلوم الدبلوماسية وقوانين فضّ النزاعات، اردت في الحقيقة ان اتمعّن بدور المرأة في كيفية حلّ النّزاعات وأن أكون جزءًا من التغيير الاجتماعي. رغبتي في مكافحة التمييز الجندريّ، والمتعة التي اجدها بالمناقشة والمشاركة في القضايا الاجتماعية والسياسية. شغفي للتعلم من التاريخ فيما يتعلق بما ينجح ويخفق عندما يتعلق الأمر بالعيش في مجتمع عالمي واحد، وفهم متعدد الثقافات وإدراك لما يحدث خارج الحدود. وها انا هنا اليوم، أسعى لتوسيع خبراتي المهنية ونطاق علاقاتي.
اعتقدت انني وحدي امر بهذا كله، انت لا تدرين كم من الصعب كان مجيئي الى هنا، هل…؟ لم أدعها تكمل السؤال، قلت لها:
لا يا صديقتي…. آب عام ٢٠١٨، رفض المجتمع اختلافي. كانت رحلة أرتني المزيد من الجرائم التي يرتكبها المجتمع بحق النساء، انه في الوقت نفسه الذي أكملت فيه دراستي للّغة الألمانيّة وحصلت على منحة لدراستها في جامعة لويفانا في لونيبورغ.
كيف لي أن أنسى دعم الغرباء وقربهم مني رغم اختلاف ثقافتهم ومعتقداتهم، لقد خدّروا مشاعر الخوف وكانوا مصدرًا للأمان والسلام الداخلي.
كيف لي أن أنسى وقتي الذي امضيته ليلًا ونهارًا في شوارع دريسدن، اتأمّلها، أرى آثار الحرب التي لا تزال علی جدران بناياتها، لم تُمحَ، في كل زاوية قصة، وأحداث جديدة، يسقط فيها ٢٥٠٠٠٠ شخصا جرّاء القصف خلال الحرب العالميّة الثانية. أتدرين كم هو الشبه بيني وبين هذه المدينة؟ أخوض حربا بمفردي، أنتفض وأثور وأسقط واتعثر وأحيا وأنتصر. تصيبني القشعريرة عند سماع تاريخها المؤلم، وأفتخر عند رؤياها تنهض منتصرةً مستقلّة.
كيف لي أن أنسى يوم وضعت رأسي على وسادة لم تكن وسادتي. اسأل نفسي، هل انتهيت أخيرًا من علّة المجتمع؟ إن عجبي هو على مجتمع يمارس التناقض باستمتاع! لا أدرِ كيف مرت هذه اللّيالي، كادت تنشلّ قدرتي على الاختلاط والتحدث مع بالناس، وتصل لحدّ الصّفر. كنت أتمنى ان أبقى في لبنان، ولكنني جبرت على مغادرته، ألحق أحلامي وأحاول أن أتطور نفسي…. عملي في الامارات يوقظني من غيبوبتي، ها انا الآن بعد محاولات عدة، أقترب من الآخرين واتحدث اليهم، اطلق العنان لأفكاري وأطرحها على الآخرين، اكتشف نقاط قوتي وضعفي وأقويها، استمع لنفسي وللآخرين واتعلم من أخطائي… انني أنضج…. طال الحديث لحد الساعة الخامسة صباحا، وغفونا منهكات من رواية قصصنا، لقد مضى وقت طويل لم التقي به من يشاركني المعاناة والأحلام نفسها.
بيئة العمل في الإكسبو، تنسيني انني امرّ بصعوبات
طبيعة عملي تأخذ جزءا كبيرا من وقتي، ولكن تجربتي لم تقتصر فقط على المستوى المهني. أخرج مع أصدقائي لتذوق الاطباق على أنواعها، من الفرنسي، للياباني، للباكستاني… ونشاهد عروض حيّة مع موسيقى ورقص وفنون عالمية المستوى بالإضافة إلى فرص غير محدودة للاستمتاع ببرامج ترفيهية متنوعة. استمتع بكل لحظة! حتى لو أنني أنضج وأكبر، لا أتوقف عن الاستمتاع بكل ما هو حولي. خلال أيام العطلة، أجري في الصحراء وأتأمل غروب الشمس من على شاطئ البحر، وأزور الأسواق القديمة حيث أتذوق طعم الثقافة العربية التقليدية كالعمارة والموسيقى، الملابس، والمطبخ العربي، ونمط الحياة.
اين تأخذني احلامي بعد الاكسبو؟
بالعودة الى السؤال الذي طرحته في أول المقال، وأجيب عنه…
الحياة ليست بهذه السهولة في الواقع، أنتم هنا تمرّون بأصعب مواسم حياتكم. سيكون هناك أمواج حيث سنعاني. ستكون هناك مواسم من الألم. والتحدي الأكبر هو كيف ستردّون في تلك اللحظات. الأحلام تستحق القتال من أجلها، وتستحق تصديقها، نحن نستحق أن نمنح أنفسنا فرصا من دون ملل.
لم تنتهِ أحلامي هنا، تكاد الأرض لا تساعني عند سماعي لخبر قبولي بمنحة الحكومة الألمانيّة… أنا في طريقي الى برلين أخطي أولى خطواتي لتحقيق هدفي، لأتدرّب داخل البرلمان الألمانيّ، تحت إشراف صانعي القرار وأعضاء البرلمان، لأبحث عن حلول لدعم مشاركة النساء في صناعة القرار والعمل السياسي.
يتبع…
التعليقات (0)